أزاح مسؤولون مصريون الشهر الماضي الستار عن أول صور التُقطت لممر خفي داخل الهرم الأكبر الذي شيَّده قدماء المصريين قبل 4500 عام على هضبة الجيزة الواقعة حاليًّا في ضواحي القاهرة. ويبلغ الممر الغامض تسعة أمتار طولاً ومترين عرضاً، وكان قد اكتُشف للمرة الأولى في عام 2016 بفضل تقنية التصوير بالميونات. وتتسم هذه التقنية بأنها غير تدخلية، أي أنها لا تنطوي على أي مساس بالجسم المطلوب تصويره. وهي تقوم على استخدام جسيمات الأشعة الكونية المعروفة باسم الميونات لرؤية ما بداخل الأجسام الصلبة، من خلال كشف التغيرات في كثافة هذه الأجسام وتركيبها، ومن ثم تمكين العلماء من رسم نماذج ثلاثية الأبعاد لبنيتها الداخلية.
التصوير بالميونات: الأشعة الكونية تكشف ما بداخل الأهرام والبراكين
ما الميونات؟
يزخر الكون بأشكال لا تُحصى من الأشعة الكونية التي تشق طريقها عبر الفضاء بسرعة تقترب من سرعة الضوء. ويرجع مصدر انبعاث هذه الأشعة إلى الشمس أو انفجارات النجوم المعروفة بالمستعرات العظمى أو السوبرنوفا في المجرات البعيدة. وفي كل ثانية، يتعرض كوكب الأرض لسيل منهمر من هذه الأشعة المؤلفة من تريليونات من الجسيمات دون الذرية. وحين تتصادم الأشعة الكونية مع الغلاف الجوي لكوكب الأرض، ينحرف بعضها بفعل المجال المغناطيسي للكوكب، في حين يصل البعض الآخر إلى سطح الأرض دون التسبب في أي أضرار. وتتعرض الأشعة أثناء مرورها عبر الغلاف الجوي لسلسلة من التفاعلات التي ينتج عنها سيل من الجسيمات دون الذرية الجديدة، ومنها الميونات.
والميونات جسيمات ذات طابع محيِّر، لأن بعض خصائصها تحيد بقدرٍ طفيف وإنما مؤثر عن التنبؤات المستمدة من النظرية الأبرز حاليًّا في مجال فيزياء الجسيمات، وهي النظرية المعروفة بالنموذج المعياري. ومع ذلك وجد العلماء سبيلاً لاستخدام هذه الجسيمات التي يكتنفها الغموض بطريقة تشبه التصوير الإشعاعي العادي، بهدف تصوير الأجسام الكبيرة الحجم من الداخل في الحالات التي يستحيل فيها الوصول إلى تلك الأجسام بالوسائل المادية، كما في حالة المباني الأثرية أو البراكين أو حتى المفاعلات النووية.
وقال السيد إيان سوينسون، وهو متخصص في الفيزياء النووية لدى الوكالة: "صحيح أنَّه ليس بوسعنا أن نرى الميونات بأعيننا، لكنها موجودة في كل مكان على كوكب الأرض، وهي تمرُّ عبر أجسادنا والأشياء من حولنا طوال الوقت بسرعة تكاد تصل إلى سرعة الضوء من جميع الاتجاهات. ولا يترتب على ذلك أي ضرر بالبشر، لكن الميونات قادرة على اختراق مئات الأمتار من الصخور ومن ثم توفير وسيلة متنوعة الإمكانات تتيح فهم تركيب وأبعاد أنواع من المواد لا سبيل إلى رؤيتها بأي وسيلة أخرى".
وأضافت السيدة أندريا جيامانكو، وهي متخصصة في فيزياء الجسيمات وإحدى مؤلفي منشور صادر عن الوكالة بشأن التصوير بالميونات: "يمكن القول إن تقنية التصوير بالميونات تشبه إلى حد ما تقنيتي التصوير بالأشعة السينية أو بأشعة غاما، اللتين تُستخدمان في مجال الطب لفحص الجسم البشري وفي مجال الصناعة لتقييم سلامة الهياكل والمكونات وأمانها. ويعتمد هذان النوعان من التصوير الإشعاعي على استخدام إشعاعات قوية تنتجها مصادر اصطناعية كمعجلات الجسيمات أو المصادر المشعة، أما التصوير الإشعاعي بالميونات فيقوم على استخدام الأشعة الكونية الآتية بصورة طبيعية من الفضاء الخارجي".
وهناك نوعان عامَّان من التصوير بالميونات: التصوير القائم على امتصاص الميونات والتصوير المقطعي القائم على تشتت الميونات.
وينطوي التصوير القائم على امتصاص الميونات على وضع جهاز للكشف تحت الهيكل المطلوب تصويره أو بجانبه لالتقاط الميونات التي تمر عبره. ويمتص الهيكل المطلوب تصويره قدراً أكبر من الميونات كلما زادت كثافة المادة المصنوع منها، في حين يلتقط جهاز الكشف الموضوع في الجهة المقابلة بعض الجسيمات التي تتمكن من اختراق الهيكل. وبذلك يُنتج جهاز الكشف صورة تظهر فيها المساحات الخالية التي تمر الميونات عبرها بسهولة على هيئة نقاط ساطعة، في حين تظهر المواد الأعلى كثافة في شكل بقع داكنة.
أما التصوير المقطعي القائم على تشتت الميونات، فكما يشير اسمه وخلافاً للتصوير القائم على امتصاص الميونات، يعتمد على رصد مسارات تشتت الميونات بعد اصطدامها بالمواد. وعلى سبيل المثال، يمكن للخبراء رؤية ما بداخل سيارة أو حاوية شحن دون الحاجة لتفتيشها ماديًّا عن طريق وضع جهازين للكشف على جهتين متقابلتين منها لتتبع مسارات حيود الجسيمات عن المواد العالية الكثافة والتي تحتوي على عدد كبير من البروتونات.
ومنذ التجارب الأولى التي أُجريت في خمسينات القرن الماضي، صارت تقنية التصوير بالميونات تُستعمل لتصوير طائفة متنوعة من الأجسام حول العالم. ويُستخدم التصوير القائم على امتصاص الميونات في الوقت الراهن لتقييم البنية الداخلية لبركان فيزوف الشهير بالقرب من نابولي في إيطاليا، والذي تسبب في مأساة تدمير مدينة بومبي القديمة وعدة بلدات رومانية أخرى في عام 79 بعد الميلاد. ويعمل الباحثون على تكوين تصور مرئي للعمليات الداخلية في البركان باستخدام أجهزة لكشف الميونات في محاولة لتحسين جهودهم في مجال النمذجة، وهي جهود لها أهمية قصوى في التنبؤ بوقوع أي ثوران محتمل وبمساره عند وقوعه، ومن ثم وضع الخطوات اللازمة للحد من المخاطر على السكان المحليين. وقد ظلَّ البركان خاملاً منذ ثورانه الأخير في عام 1944.
وبالمثل، استُخدم التصوير بالميونات لفحص السور القديم حول مدينة شيان في الصين، وتقييم إعصار مداري مرَّ فوق اليابان، ودراسة الأنهار الجليدية في منطقة الألب، كما استُخدم مؤخراً لتصوير مفاعل نووي يخضع للإخراج من الخدمة في فرنسا.
وتخطط الوكالة لعقد حلقة عمل خلال العام المقبل بعنوان ’التصوير القائم على امتصاص الميونات: من المبادئ الأساسية إلى الاستخدام العملي والتطبيقات‘. وسيناقش المشاركون في حلقة العمل الطرائق المختلفة للاستفادة من هذه التقنية في تطبيقات عملية، وخصائص أجهزة الكشف المستخدمة، والخوارزميات المستخدمة في تجميع البيانات لإنتاج صور مسارات الميونات، وكذلك تحليل البيانات وتجميعها لإنتاج الصور.
وقد أصدرت الوكالة منشوراً يقدِّم وصفاً تفصيلياً لأبرز التقنيات المستخدمة في التصوير بالميونات والأنواع المختلفة من أجهزة الكشف المستعملة. ويتناول هذا المنشور أيضاً طائفة واسعة من التطبيقات: بداية من فحص المباني الحديثة والأثرية والبراكين والهياكل الصناعية، وحتى تعزيز الأمن النووي والضمانات. وقال السيد سوينسون: "إنَّ هذا المنشور يقدِّم لمحة عامة شاملة عن مجال التصوير بالميونات، ويمكن للقراء في الأوساط الصناعية والأكاديمية أن يستعينوا به لتعميق فهمهم لهذا المجال الناشئ". ويمكن الاطلاع (باللغة الإنكليزية) على هذا المنشور الذي يتناول موضوع التصوير بالميونات عبر هذا الرابط.